البديلُ الإسلاميّ .. في مواجَهَة الثلاثيةِ الغَربية
د. طارق عبد الحليمالحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم
في مقابل المنظومة التثليثية الغربية، يقف النظام الإسلاميّ، يحمل في طياته ما يَسدّ عيوب تلك المفاهيم البشرية الوضعية، التي سَاهمت في إنشائها الأنانية وحب الذات، ورافقها قصور العلم وضيق الأفق، وهي سمات البشر، مهما إدعوا غير ذلك. وكيف لا، وواضعه هو خالق البشر، الذي يعلم ما يُصلِحُهُم وما يَصلحُ لهم "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ" الملك 14.
تقوم المنظومة الإسلامية، في المجالات الثلاث التي تحدثنا عنها، أعنى العقيدة/الإجتماع/السياسة، على أسس تختلف عن مثيلاتها في النظم الغربية الوضعية. إلا إنها لا تنقسم إلى نظرياتٍ ثلاثٍ متنافرة، أعنى في مقابل العلمانية/الليبرالية/ الديموقراطية، بل تنبع كلها من الإسلام، عقيدة وإجتماعاً وسياسة، ويرجع بها كلها إلى "التوحيد"، وهو ما يعالج التعددية المُفتتةِ للجهد، المُشتتةِ للنظر، المُتضاربةِ الأسس والمبادئ، كما رأينا في المقالين السابقين.
ففي جانب العقيدة، يقف مبدأ التوحيد في مقابل العِلمانية الملحدة، يؤمن بما دلّت عليه الفِطرة، وهدى اليه العقل، وأكّدته الرسل، من وحدانية الله سبحانه وعلوه على الخلق، وعلى سائر أسمائه الحسنى وصفاته العلى. ومن ثم، فالله وحده هو من يملك أن يقرر ما يحكم به الناس فيما بينهم، بل إنه لكفر به سبحانه أن يشاركه فيه أحدٌ تحت لأي إدعاءٍ أو تأويل. وتأتي الشريعة الإسلامية، يتضمّنها كتاب الله، بكلياتها وثوابتها، وتشرَحها وتبيّنها سُنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته. هذه المرجعية التشريعية، تغلق أبواب التنافر والتضاد الناشئ عن التعددية المرجعية، والتخبط بين أفكار البشر، وكأن المجتمعات حقلُ تجاربٍ، وكأن الناس فيرانُ تجاربٍ فيها! ثم إن ّهذه العقيدة تجعلُ للعمل الإنسانيّ مَجالاً أرحب وأوسع من الدنيا، إذ تتشارك في مجال جهده الدنيا والآخرة، دون تصادُمٍ أو تَضاد.
من هذا التصور للوحدانية، تنبع كل النظم في الإسلام. ثم ينبثق عن هذا التصور مبادئ عامة كلية ثابتة، عليها يقوم كل نظام فيه، الإجتماعيّ والإقتصاديّ والسياسيّ، وهي الحرية، والمساواة، والعدالة. وحدة في التصور، ووحدة في المرجعية، ووحدة في المبادئ والكليات. فترى هذه الكليات تجرى بيسر وتكاملٍ في هذه النظم كافة دون تصادُمٍ أو تَضاد، كما ذكرنا آنفاً.
فالحرية هي الحرية المُنضبطة بما يحفظ لكل صاحب حقّ حقه في التحرر، لا حرية الليبرالية العابثة الطليقة من كلّ قيد. وأول وأهم بند في هذه الحرية، هو التحرر من عبادة الناس، من تشريعات البشر، الذين هم، على أفضل الأحوال، مثلنا مثلهم، لا يَفضُلون أحداً ممن يتعالون عليهم بحقّ التشريع، ومن ثم حقّ التعبيد. والمُساواة هي المساواة التي لا تنكر التفاضل، لكن ليس على أساس المال والجاه، أو الجنس واللون، بل على أساس التقوى والصلاح في الآخرة، وعلى أساس الجهد والإمتياز في الدنيا. والعدالة هي تلك العدالة التي يقف فيها الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والأبيض والأسود، والرجل والمرأة، لا يُفرّقُ بينهم شئ إلا الحقّ، من حازه عَلا وفاز، ومن هَضَمَه خَاب وخَسر.
والأصل الأول المكين في إنشاء النظم الحياتية في الإسلام هو الإباحة التامة، إلا ما استثنيّ بدليلٍ ثابت نقلاً أو عقلاً أوعُرفاً، لمنع ضرر أو لجلب مصلحة. أي، بكلمات أخر، أن الأصل هو المنح لا المنع، والفعل لا الترك، وهو مدلول قوله تعالى "هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًۭا" البقرة 29.
فالنظام الإجتماعيّ يقوم على هذا اللون من الحرية، يكون فيه حق الناس في إختيار المأكل والمشرب والمسكن، والزوج والعمل، مكفولٌ لا ينازع أحدٌ فيه أحداً، إلا أن يجور على حقّ غيره بالعدوان، كأن تتكشف المرأة، فتعتدى على حقّ الرجال في الطهر، وعلى حق المجتمع في إجتناب الرزيلة. أو أن يأبي رجلٌ إلا أن يعمل في تجارة الخمور، وهو ما يُفسد المجتمع. ولا يقال في المتصور الإسلاميّ ما يتشدق به أهل الليبرالية الملحدة، أنه ما عليه إن فعل، إذ لا عليك إلا أن لا تشترى سلعته، أو ان لا تنظر إلى مفاتن المرأة المتكشفة. والإسلام دين عمليّ صرفٌ، يعلم أن الطبع البشريّ غَلاب، وأن للرذيلة مذاق العسل، ويأخذ في عِلاج المجتمع بمبدأ الوقاية خيرٌ من العلاج. ونحن نعلم يقيناً أن دعاة الليبرالية هم ممن يَشربون الخَمر إلا من امتنع لمرضٍ أو فقر، ويرافقون النساء، وما حادثة عمرو حمزاوى واليهودية بَسمة ببعيد! وهو، من ثم، يحفظ على الأسرة كِيانها، ويأمر بالعلم والنظر والبحث في آيات الله الكونية، ويحثّ على الصدقة وإغاثة الملهوف وإعانة المحتاج، والقرض الحسن، وحسن الجوار، وحفظ اللسان، والصدق والشرف ونظافة اليد من الإختلاس والرشوة، وسائر المكرمات التي يقوم عليها المجتمع الناجح المتكافل، والتي، غابت عن مجتمعاتنا فضربنا الله بالذلة والمسكنة، وحكّم فينا أراذل أهل الأرض، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والنظامُ الإقتصاديّ، كمثيله الإجتماعيّ، يقوم على الحُرية، الحرية المُنضَبطَة للتملّك، والبيع والشِراء، والتَعاقد، والمُنافسة، وتقديرُ هامش الربح، وسائر ما يمنح الحرية الكاملة للمواطن في التعاملات المَادية. ولكن هذه الحرية منضبطة بركنين ركينين، أوّلهما، منع تداول المال كسلعة، وهو مفهوم الربا، مما يُصحّح مُشكلة الفوائد الربوية، التي تُمثل حَجَر الزاوية في الثلاثية الغربية الرأسمالية، والمِعول الذي يهدِمُها في نفس الوقت. وثانيهما، منع تأسيس المعاملات بين صاحب المال والعَامل على أساس الدَيْن، بل على أساس الشراكة، الذي يعتمد مبدأ شيوع المكسب والخسارة. وهذا المَبدأ يصحح مشكلة الإستعباد الماليّ للعامل، وإهدار قيمة العمل والجهد، مقارنة بقيمة الورقة المالية، التي تفقد قيمتها أصلاً حين يفقد الجهد قيمته، وهو مفهوم التضخم. ومما لا شك فيه أنّ النظام الإسلاميّ يسمح بتكوين الثروة، ولا يقيدها، وإن منح الحاكم الحقّ في منع الإحتكار، والجهالة والغرر، وإبطال العقود التي يقع فيها مثل تلك المُخالفات.
والمُجتمع الإسلاميّ، كأيّ مجتمع بشريّ، فيه طبقة عاملة كادحة، إلا إن التصور الإسلاميّ للحياة وما بعدها، والركائز العقدية لهذا التصور، تحمل الأجسام المضادة لتلك الأمراض الرأسمالية، التي لا تأبه لفقر ولا ترحمُ مرضاً، وتترك "للحكومة" التي تنفق من مال الضريبة التي تقتلعها من قوتِ "الموظفين" رغماً عنهم، على ما تتفضل عليهم به من برامج إجتماعية، يدفعون هم ثمنها، ثم يشاركهم فيها الأغنياء. أما الإسلام، فيقوم فيه نظام الزكاة، الذي ينبع من ذات الفرد، ويحميه القانون، كما فعل أبو بكرٍ الصديق رضى الله عنه، مقام الضرائب التي يتلاعب بها المتلاعبون، ويقع عبؤها الأكبر على عاتق الطبقة الكادحة.
وبدلاً من التشريعات التي يقوم بسَنّها عملاء الأغنياء فيما يسمونه مَجالس الشعب أو النوّاب، الذين يُفترض أنهم ممثلوا الشعب، فإن الإسلام تكفل بسنّ الكليات العامة، ثم تكفّلت السنة ببيان أمثلة يُقاسُ عليها أشباهها، مما لا مجال لتغييرها أو التلاعب بها، إلا أن يفسد الحاكم، ويتغاضى المحكوم.
والسياسة، في المنظومة التوحيدية الإسلامية، هي عاملٌ خادمٌ لا سيدٌ رائدٌ، تسعى لما فيه صلاح الناس، مَنْ التَحق بكوادرها، أحَسن، وإلا عُزِل، مهما عَلت رتبته، جرياً على مبدأ "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني". والسياسة الشرعية، التي تَعني رعاية مصالح الخلق، تنتظم السياسة الداخلية والخارجية، ويقوم الجانب التشريعيّ بتنظيم قواعدها وأصولها، وتحديد الولاءات حسب ما يمليه الشرع. فسن القوانين إذن لا يكون لحماية مصالح أصحاب الأموال، بل لرعاية الأمة وحماية مصالحها العليا.
والديموقراطية المزيفة، التي يتشدق بها الغرب، وهي خواء يُخدع به السذج ممن عقله في أذنيه، لا محل لها في الإسلام، إذ إن الله سبحانه هو الحاكم المشرع، لا إله إلا هو، والشعب والحاكم يأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه. والشعب في البديل الإسلاميّ مراقبٌ للحاكم. وشتان بين مراقبة الحاكم ومحاسبته، وبين أن يكون الشعب مصدر السلطة والتشريع، إذ بينهما ما بين الإسلام والكفر. وهو المفهوم الذي ضلّ فيه كثيرٌ من "المسلمين"، فخلطوا إيماناً بكفر، وهم لا يعلمون. والإسىلام يتيح للشعب حريته وكرامته، ويعطيه حقّ الخروج على الحاكم الفاسد أو الكافر، إن استبدّ وعبدّ الناس لدينه العلمانيّ، خلاف ما ضلّت فيه بعض من انتسب للسّلفيه عنوة وجهلاً.
الفرق بين المنظومتين جدّ كبير، والإيمان بأيهما، العلمانية/الليبرالية/ الديموقراطية، في مقابل البديل الإسلاميّ أحاديّ المصدر والمرجعية والهدف، خروج عن الآخر جملة وتفصيلاً، فآخذ بصاحبه إلى أي الجانبين أراد، ولا جامع بينهما إلا في وّهمِ جاهلٍ غرٍ، أو تلبيس دعيّ كاذب.ن وصدق الله "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلْأَخْسَرِينَ أَعْمَـٰلًا ﴿103﴾ ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" الكهف 104.
* 6 سبتمبر 2011
http://www.almaqreze.net/ar/news.php?readmore=1377