د. أكرم حجازي
عدد المساهمات : 77 تاريخ التسجيل : 16/08/2011
| |
د. أكرم حجازي
عدد المساهمات : 77 تاريخ التسجيل : 16/08/2011
| موضوع: رد: الثورة السورية ومسارات التدويل (6) خريطة القوى المسلحة الأربعاء يوليو 25, 2012 9:28 am | |
| تكملة...
وفي الرسائل التسع؛ ثمة ثوابت للتذكير، ومطالب للعمل، وتوجيهات للالتزام، لكل فئة من الفئات المستهدفة. لكن أميز الرسائل كانت تلك التي ذكَّرت الغرب بخذلانه للسوريين، وصمته على مجزرة حماة سنة 1982، فكانت الرسالة بقسمٍ قاطع: « والله ما رأينا منكم ولا عهدنا عليكم إلا التآمر والخيانة. فما زال يوم مجزرة حماة ومجازر الثمانينات ماثلة في أذهاننا ولن ننسى يومها خذلانكم وسكوتكم وتآمركم»، وكذا الرسالة التي خاطبت العلماء بصريح القول: « ما هكذا كان علماء بلاد الشام سابقا .. اتقوا الله .. قوموا إلى جنة عرضها السماء والأرض .. قولوا كلمة الحق في وجه هذا الطاغية .. أشعلوا النار من تحت هذا النظام الأسن .. قودوا شعب سوريا إلى الجهاد في سبيل الله .. كونوا قدوة لهذا الشعب الثائر .. قودوه إلى ساحات الحرية .. أصدروا الفتاوى وانشروا المنشورات .. وحرضوا أبناءنا على الجهاد والاستشهاد».
أما الرسالة الموجهة لمدينة حلب في حينه، حيث موطن الكتيبة، فقد بدا العتاب فيها واضحا: « إن أخشى ما نخشاه عليكم أن يستبدل الله بكم قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم . نقول: ما هكذا عودتم أقرانكم ... يا أهل حلب: النخوة النخوة .. الشدة الشدة .. والشهادة الشهادة .. ثوروا في وجه هذا الخائن الجبان .. اضربوا فئران الأسد في كل مكان .. أحرقوا الأرض من تحتهم .. اقعدوا للخونة كل مرصد .. ونعد أزلام النظام وأعوانه بأن كتيبة الشهباء التابعة لكتائب أحرار الشام ستكون نارا تلظى على أمن وجيش الأسد اللعين .. سنجعلها بركانا على شبيحة النظام الفاسد .. سترون من سرية أبي بكر الصديق والصارم البتار والعز بن عبد السلام ما تشيب منه الولدان».
في 4/6/2012 كان المتابعون للشأن السوري على موعد مع هوية « الكتائب» عبر التسجيل المرئي لها بعنوان: « هل أتاك حديث الكتائب». ولسنا ندري إذا كان « حديث الكتائب» عن نفسها سيرد لاحقا في سلسلة حلقات، كما كان حال السلسلة الشهيرة لأبي مصعب الزرقاوي، والتي تحدث فيها عن الرافضة في العراق، وجاءت بعنوان: « هل أتاك حديث الرافضة؟»، لكن النص أو التسجيل بدا كافيا للاطلاع على مبرر وجود « الكتائب» وقراءتها للصراع، أو لمعرفة منهجها وعقيدتها أو مواقفها من أطراف الصراع وعلاقتها بقوى الثورة.
فقد بدت « الكتائب» منذ اللحظة الأولى على النقيض من القوى السياسية والشعبية التي كانت تنادي بـ « « سلمية الثورة»، فـ: « مُنذُ أنْ هَبَّ أهلُنا في شام ِالعزَّةِ يَنْشُدونَ خَلاصَهم ... عَلِمنا مُنذُ البدايةِ أنَّ الأمْرَ لن ينْقَضِيَ بمَسِيرات احتجاج أو اعتصاماتٍ في ميادينَ أو ساحاتٍ عامة ٍعلى أهمِّيِتِها، فقد بَلَوْنا هذا النِّظام َالطائفيَّ المعتديَ على الأمَّةِ ومُقَدَّراتِها, وخَبِرْنا جبروتَه وبطشَه بطُلابِ العزَّةِ والكرامةِ، وشَهِدْنا إصْرارَهُ على العُدوانِ وإزهاقِ الأَرواحِ»، لهذا: « (1) كانت كتائبُ أحرَارِ الشَّامِ, أُولى الكتائبِ المنظَّمةِ وُجوداً و (2) هيَ كتائبُ ومَجاميعُ مؤمنةٌ, (3) علنيةُ الوجودِ، (4) أَطَّرَ الإسْلامُ عَمَلَها، مُسْتقلَّةٌ, و (5) ليستِ امْتِداداً لأيِّ تنظيمٍ أو حِزْبٍ أو جماعَةٍ، (6) تُقَاتِلُ في سبيلِ اللهِ (7) تَذُودُ عن حِياضِ الدِّينِ و (8) تَذُبُّ عنِ المُسْتَضْعَفِينَ ... ».
إذن؛ « الكتائب» سياسيا: « تهدُفُ الكتائبُ لإسقاطِ هذهِ العصابةِ المجرمةِ وتقويضِ أركانِها, وتسعى لرِفعة ِالأُمَّةِ والأَخذِ بأيديْ أبنائِها لجادَّةِ الخيرِ والعملِ على إرساءِ نظامِ حُكْمٍ إسلاميٍّ عادلٍ راشدٍ بوسائلَ مشروعةٍ وبرؤيةٍ استراتيجيةٍ تأخذُ بعينِ الاعتبارِ واقعَ أهلِنا في سوريَّةَ بعدَ عُقودٍ من ممارساتِ نظامِ البعثِ ومحاولاتِهِ الدَّؤوبةِ لحرفِ مَنهَجِ التَّفكيرِ لدى العامَّةِ من أبناءِ شعبِنا».
وفي « الاعتقادِ والأحكام»، هي متبعة لـ: « كتابِ اللهِ وصحيحِ سنَّةِ نبيِّهِ معَ تقديمِ فهمِ سلفِ الأمَّةِ الصَّالحِ فيما لم يكنْ حادثاً». وعليه فإن: « كلُّ محظورٍ في الشَّرع ِفهو متروكٌ عندَنا, وما كانَ جائزاً فهو يدورُ بينَ الفعلِ والتَّركِ بناءً على مُوازنةِ المصالحِ والمفاسدِ وضوابطِ السِّياسةِ الشَّرعيةِ».
وفي علاقتها بعموم القوى والشرائح الاجتماعية والسياسية والأقليات والإثنيات: « تُسالمُ كلَّ مَنْ سالمَ أهلَنا. ولكنْ مَنْ أعانَ النِّظامَ في حربِهِ على شعبِنا المُصابرِ, أو سعى لإخمادِ ثورتِهِ المباركةِ فهو هدفٌ مشروعٌ. وعلى هذا فإننا لسْنَا بصددِ التصادمِ والاقتتالِ مع المخالفينَ بناءً على خلفيةِ الفكرِ والاعتقادِ, وإنَّما على دورِهم في العدوانِ الحاصلِ. فالشَّبيحةُ والجنودُ وعناصرُ الاستخباراتِ أهدافٌ مشروعةٌ من أَيَّ طائفةٍ كانوا أو لأيِّ عِرقٍ ينتمونَ ».
أما عن علاقتها بعموم القوى المقاتلة في الثورة فتقول: « نَنظرُ لإخوانِنا تحتَ المُسمَّياتِ الأُخرى بأنَّهُم في سَعَةٍ منْ أمرِهِم ما دامَتِ الغاياتُ مشروعةً»، لكن دون أن تقطع حبل الوصل والتنسيق مع أحد منها: « اعتقادِنا بأنَّ أصحابَ المشروعِ الواحدِ يجبُ أنْ تتضافرَ جهودُهُم و تتعاضدَ». ولعل هذه الفقرة كانت المدخل للإعلان عن تشكيل« جبهة ثوار سوريا في 4/6/2012» في مدينة اسطنبول التركية. ولم يكد يمض يوم على تشكيل « الائتلاف الجديد» حتى أعلنت « الكتائب» عن تعليق عضويتها فيه.
ففي « حديث الكتائب» وردت جملة مهمة في بيان هويتها تقول بأن:« الكتائب: ليستِ امْتِداداً لأيِّ تنظيمٍ أو حِزْبٍ أو جماعَةٍ». وفي التدقيق ظهرت هذه « الجملة» وكأنها السبب الرئيس لبيان تعليق العضوية، الرافض لـ: « أن يجيّر هذا الأمر ( جبهة ثوار سوريا) لنكون ذراعًا عسكرية لواجهة سياسية متمثلة بالمجلس الوطني». لكن هناك أسباب أخرى تمس منهج وعقيدة « الكتائب»، وما تم الاتفاق عليه في الميثاق التأسيسي، أوردها البيان في النقاط الأربعة التالية:
(1) « الشريعة الإسلامية الغراء هي مرجعيتنا المعتمدة في أمورنا كلها وكل ما يصادمها أو لا يكون منضبطاً بها فهو مرفوض ابتداءً.
(2) نحن أقدمنا على تشكيل الجبهة بوصفها ائتلافاً ثورياً جهادياً متكوناً من فصائل مستقلة ولسنا تمثيلاً عسكريًا لأي كيان قائم.
(3) المجلس الوطني يضم أفاضل نحترمهم وآخرين نعلم يقيناً بأن جهودهم منصبة على عرقلة جهاد الشعب لنيل حقوقه. وعلى هذا فإننا ليس لنا أية علاقة ارتباط مع المجلس الوطني أو غيره من الكيانات السياسية والعسكرية .
(4) تعليق عضويتنا في الجبهة حتى يتم الرجوع عما ذكر رسمياً ويجري تبني الميثاق الذي توافقنا عليه مع الأخوة الآخرين».
وحتى الآن لم يتوفر لدينا أية نصوص أو تسجيلات أو وثائق عن محتوى الميثاق ولا عن القوى المعنية بالائتلاف الجديد المسمى بـ « جبهة ثوار سوريا». كما لا تتوفر حتى كتابة هذا النص أية تعقيبات جديدة من « الكتائب» أو من الجهات المعنية ذات الصلة.
جبهة نصرة أهل الشام
في 22/5/2012 صدر الجزء الأول من تسجيل مرئي طويل وبالغ الإثارة، بعنوان: « صدق الوعد». ولدى معاينة التسجيل ظهرت مجموعات محترفة وضاربة، تنشط عسكريا وأمنيا ضد النظام الطائفي في سوريا، بحيث لم تفلت من ضرباتها الثكنات العسكرية ومقرات الأمن والحزب والآليات العسكرية والأمنية والأفراد والحواجز وغيرها. كما أظهر الإصدار نشاط إغاثي للنازحين من المدنيين وذوي الحاجة، ونشاط آخر يتمثل باشتباكات مع قوى النظام ومليشياته في المدن والأحياء، ونشاط ملفت للانتباه يتمثل بانتشار المقاتلين بين الناس، متحدثين إليهم وهم راجلين أو راكبين آلياتهم، في أوسع الطرقات وأكثرها كثافة سكانية وحركة مرورية.
هؤلاء الذين ظهروا في التسجيل، من المفترض أن يكونوا أشد الناس تواريا عن الأنظار، لكنهم كانوا أكثر جرأة والتصاقا في الناس والساحات العامة من أية جماعة جهادية أخرى .. هؤلاء هم مقاتلو « جبهة النصرة» .. إحدى أشد الجماعات ضراوة في ساحات القتال.
جاء الإعلان عن ميلاد الجبهة في تسجيل مرئي بعنوان: « شام الجهاد»، والذي صدر في 24/1/2012، عن مؤسسة «المنارة البيضاء»، التابعة لها. أما « المسؤول العام للجبهة» فهو المكنى بـ « الفاتح أبو محمد الجولاني». ولدى معاينة التسجيل لم يظهر ذاك الحرص الكبير على بيان عقيدة الجبهة أو منهجها كما هو مألوف عادة حين ظهور جماعات جهادية جديدة. ولعل صدور التسجيل على متن « شبكة الشموخ الجهادية»، قبل غيرها من الشبكات، كان كافيا إلى حد ما لتزكية الجبهة. ومع ذلك فلم تحد كلمة الجولاني في قراءتها للصراع عن إجمالي قراءات الجماعات الجهادية السابقة عليها أو اللاحقة، خاصة فيما يتعلق بالمشروع «الصفوي». لكنها كانت أكثر وضوحا في الغاية من ظهورها، أو في الموقف من دعوات التدخل الدولي. فالجبهة ما ظهرت إلا: «سعياً منّا لإعادة سلطانِ اللهِ إلى أرضِه».
لا ريب أنه «سعي» يترتب عليه رفض الدعوات المنادية بالاستعانة: «بالعدو الغربيّ للخلاص من العدو البعثيّ، فهي دعوة شاذة ضالة وجريمة كُبرى ومُصيبة عُظمى لا يغفِرُها الله ولن يرحم أصحابَها التاريخُ أبدَ الدهر»، بما في ذلك التعويل على أية قوة شريكة له كتركيا والجامعة العربية. إذ: «لا عِبرة بالتغيير إن كانَ التغييرُ من الظلمِ إلى الظلمِ ومن السحت إلى السحت، فهذا هو عينُ الفساد مع اختلاف ألوانه»، وعليه: «فحذارِ أن تُخدَعُ الأمةُ خمسين سنة أخرى»، أما: « النجاةُ من كلِّ هذهِ المعامع أن ترجِعَ الأمةُ لأصلِها وتضعَ الثقةَ بمن هُم أهلٌ للثقة». ومن المؤكد أن « أهل الثقة» لن يكونوا سوى: « أبناء الأمةِ، وأخصُ منهم أهلَ الجهاد ... الوحيدون القادرون على التغيير الحق».
ولما يكون على أهل الشام أن يدركوا: «أنَّ هذا النظام لا يزولُ إلا بقوةِ اللهِ ثمَّ بقوةِ السلاح»، فإن: «جبهةَ النصرةِ تحملُ على عاتقها أن تكونَ سلاحَ هذهِ الأمةِ في هذهِ الأرض وتغني الناسَ بعدَ اللهِ عزَّ وجل عن استنصار الغُرباءِ القتلة».
ولعل أطرف ما في التسجيل يتعلق بالتسمية المعتمدة للجماعة. إذ أن صيغة « الجبهة» تبدو أقرب ما تكون إلى الائتلاف من صيغة الجماعة أو الحركة أو الحزب أو التنظيم. وقد لاحظنا في التسجيل سلسلة من المجموعات العسكرية المتواجدة في عديد المدن السورية تعلن مبايعتها للجبهة وقائدها الذي اتخذ لقب « المسؤول العام» وليس « الأمير». وهي بهذه الصيغة تعني أنها إطار لاستيعاب القوى الجهادية التي تنتشر على إجمالي الساحة السورية، سواء من الأفراد أو الجماعات.
لم تكد الجبهة تعلن عن نفسها حتى أصدرت مؤسسة السحاب في 12/2/2012 تسجيلها المرئي للدكتور أيمن الظواهري بعنوان: «إلى الأمام يا أسود الشام»، ولم تكد وسائل الإعلام تتناقل فحوى الخطاب حتى ثارت ثائرة القوى السياسية والعلمانية والخصوم والمخالفين، لما اعتبروه دخولا مرفوضا من « القاعدة» على خط الثورة السورية، علما أنه لا علاقة جلية بين «القاعدة» و « الجبهة»، وبالتالي لا وجود على أي مؤشر لعلاقة بين الجبهة وخطاب الظواهري. ولا وجود، حتى اللحظة، لأي دليل رسمي أو قاطع على حضور « القاعدة» بصيغتها التنظيمية في الساحة السورية.
ومن المفارقات العجيبة في الأمر أنه في ذلك الحين كانت دعوات المطالبة بـ «الحماية الدولية» أو « التدخل الدولي» أو «الحظر الجوي» تملأ منابر الفضائيات في الوقت الذي كانت فيه القوى السياسية والإعلامية السورية ترفض مجرد الحديث عن « تسليح الثورة» أو « عسكرتها». وفي ذلك الحين أيضا لم تكن الجماعات الجهادية بالفاعلية التي هي عليها اليوم. وفي ذلك الحين أيضا لم تكن « جبهة النصرة» قد ظهرت إلا في المستوى الإعلامي.
لكن حتى ذلك الحين كان الحديث عن إعلان الجهاد وتقييم التجارب السابقة في أفغانستان والصومال والشيشان والجزائر وخاصة في العراق، فضلا عن مناقشة أفضل الوسائل والآليات والسياسات التي يجب اتباعها في الساحة السورية، والبيانات التي تصدر عن الجماعات الجهادية، تملأ الشبكات الجهادية والمنتديات الحوارية ومواقع التواصل الاجتماعي. وحتى الصحف والتصريحات الرسمية والتحليلات السياسية والأمنية، التي تتحدث عن احتمال تحول الساحة السورية إلى بيئة حاضنة لـ « القاعدة» وأخواتها، وجدت طريقها إلى كافة منابر الإعلام، بدء من واشنطن وأوروبا والناتو والجامعة العربية وانتهاء بالقوى الإسلامية التقليدية والشخصيات والأحزاب العلمانية واللبرالية. بل أن وسائل الإعلام تحدثت طويلا عن تدفق المتطوعين من العالمين العربي والإسلامي على سوريا للمشاركة في مجاهدة النظام السوري.
وأكثر من ذلك. فمنذ الأشهر الأولى للثورة؛ انتشرت أنباء تلك الحوارات والترتيبات التي جرت بين القوى الجهادية والمقاتلة في جبل الزاوية، والتي لم يغب عنها ضباط منشقون من «الجيش الحر» نفسه، الذي تتقاذف القوى الدولية والإقليمية ووسائل الإعلام قياداته، وتخضعها لاستنزاف سياسي يجعلها قابلة للاختراق في كل حين. ولا ريب أن أعين وأجهزة الأمن السورية والإقليمية والدولية لم تكن غائبة عما يجري في سوريا، أو عما ينتظر الساحة والمنطقة من صراعات مخيفة.
كل هذا كان بارزا وجليا. لكن لما قال الظواهري: « لا تعتمدوا على الغربِ ولا أمريكا ولا على حكوماتِ العربِ وتركيا، فأنتم أعلمُ بما يدبرون لكم، ... ولا تعتمدوا على الجامعةِ العربيةِ وحكوماتِها التابعةِ الفاسدةٍ، فإن فاقدَ الشيءِ لا يعطيه»، قامت الدنيا ولم تقعد.
أما لماذا قامت؟ فلأن القوى السياسية نأت بنفسها عن أي «تسليح الثورة» أو « عسكرتها»، نزولا منها عند رغبة «المركز»، الحريص على إبقاء المجتمع السوري والثورة مجردا من أية عناصر قوة. وبالتالي لم يقبل هؤلاء بقول الظواهري: « يا أسودَ الشامِ استحضروا نيةَ الجهادِ في سبيلِ اللهِ لنصرةِ الإسلامِ والمستضعفين والمعذبين والأسرى، وللأخذِ بثأرِ شهداءِ المسلمين. استحضروا نيةَ الجهادِ في سبيلِ اللهِ لإقامةِ دولةٍ تدافعُ عن ديارِ المسلمين، وتسعى لتحريرِ الجولانِ، وتواصلُ جهادَها حتى ترفعَ راياتِ النصرِ فوق ربى القدسِ السليبةِ.
أما لماذا لم تقعد؟ فلأن بعض الخصوم أو المخالفين رؤوا في خطاب الظواهري استحضارا لتجارب سابقة أو راهنة لا تمثل بالنسبة لهم النموذج المثالي الذي يؤمنون به، شرعيا وسياسيا، بقدر ما تبدو توريطا لا طاقة لهم بتحمل تبعاتها. إذ أن توسيع المواجهة مع النظام ستعني الدخول في حرب إقليمية لا مبرر لها إلا إعاقة فرص التخلص منه!!! على الرغم من أن النظام نفسه، وبالصيغة الطائفية الفجة، لم يتوقف لحظة عن تهديد المنطقة والنظام الدولي برمته إذا ما تعرض ملكه لخطر الزوال، وعلى الرغم أن « المركز» نفسه لا تعنيه مطالب المعارضة وأهواءها بشيء إلا بقدر تبعيتها الدائمة له، وانصياعها لسياساته المدمرة، وحاجته إليها عند اللزوم.
الطريف في الأمر أن «جبهة النصرة» ظهرت بعد شهر تقريبا من خطاب الظواهري. لكن الموقف منها كان واحدا: الإدانة والتشكيك والتشويه، رغم أنها جماعة لا تختلف، في منهجها واعتقادها، عن « كتائب عبد الله عزام» أو « فتح الإسلام» أو « جيش الصحابة» أو حتى« كتائب أحرار الشام» و «أنصار الشام رايات التوحيد - كتيبة الأنصار» و «أنصار السنة» و « قبائل دير الزور» التي كانت أول من دعا في الاجتماع العشائري الشهير إلى إعلان الجهاد، فضلا عن عشرات الكتائب الجهادية الأخرى.
أما الحرب الشعواء على « جبهة النصرة» فقد انطلقت بعد إصدارها الثاني الذي جاء بعد أسبوعين من إصدارها الأول، وحمل عنوان: « غزوة الثأر لحرائر الشام 26/2/2012». وفي الإصدار تبنت الجبهة بأثر رجعي عمليات مدينة حلب التي استهدفت فيها تدمير مقري الأمن العسكري وحفظ النّظام في 10/2/2012. وبطبيعة الحال لم تكن الاعتراضات وحملات التشكيك والإدانة والاتهامات لتتعلق بأسلوب العمليات المتبعة، فالكثير من القوى المسلحة استهدفت مقرات الأمن وحزب البعث ومباني المخابرات الجوية ومؤسسات النظام وغيرها، ولم يعترض أحد عليها. وينسحب مثل هذا الموقف على كتائب منضوية تحت مسمى « الجيش الحر» الذي يقدم نفسه، إعلاميا، حاميا للسكان وليس مهاجما للنظام. لكن الاعتراض بالنسبة للخصوم والمخالفين يتعلق بالدرجة الأساس بدخول الجبهة نفسها على خط الثورة المسلحة في سوريا، محملة بالفكر الجهادي العالمي، علما أن لا أحد له سلطة مركزية أو وصاية شرعية على القوى المسلحة أو الحق بالثناء على هذه الجهة وإدانة تلك.
مع ذلك تظل « المخالفة» موضع اجتهاد كما قال الشيخ حسين بن محمود، أحد مشايخ الجهاد، في حين أن المشكلة التي تواجهها « جبهة النصرة » تتعلق بالقوى الخصيمة والمعادية التي تصر على إسقاطها شعبيا. وفي هذا السياق انصبت الإدانات الشديدة عليها إثر التفجير المزدوج في حي « القزاز» الذي استهدف فرع فلسطين في المخابرات السورية يوم 9/5/2012، وأدى إلى مقتل 55 شخصا وإصابة 372 بجراح. وبدا أن هناك تربصا مقصودا لغايته. فبعد التفجير نشرت جهة ما تسجيلا على موقع « اليوتيوب» باسم « جبهة النصرة » تعلن فيه تبنيها للتفجير، وعلى الفور سارعت وكالة « رويترز» للأنباء بنقل محتوى التسجيل، وبثته باعتباره بيانا رسميا!!! ومن بعدها طارت به وسائل الإعلام والصحف الأمريكية والأوروبية، كما لو أنه الفريسة المنتظرة، رغم أن بيان « اليوتيوب» حمل رقم (4) في حين أن آخر بيان صدر عن الجبهة كان حتى ذلك الوقت يحمل الرقم (7)!!! ورغم أن بيانات الجبهة تصدر عن مؤسستها « المنارة البيضاء» مكتوبة لا مرئية. لكن الأعجب أنه رغم صدور البيان الثامن عن الجبهة في 13/5/2012، والذي نفت فيه مسؤوليتها عن التفجير إلا أن بان كيمون، الأمين العام للأمم المتحدة، أعرب في 18/5/2012 « عن اعتقاده بأن تنظيم القاعدة مسؤول عن التفجيرات التي نفذت بسيارات ملغومة» .. هذه «السيارات » تقول بعض مصادر الثوار أنها ثلاث « سيارات » في الأصل، جرى إعدادها في مبنى الأمن بمنطقة جرمانة بدمشق، إلا أن إحداها انفجرت أثناء تفخيخها.
لا شك أن هذا السلوك الإعلامي والسياسي الدوليين هو سلوك فاضح وهو يتصيد المواقف، أو ربما يصنعها، كي يمرر بواسطتها سياساته المعادية، ليس فقط للجماعات الجهادية بل وحتى للثورة السورية. وهو أيضا نتاج أخطاء استراتيجية في الإعلام تمثلت في التأخر الشديد في التأكيد أو النفي دون مبرر منطقي.
أخيرا
لا شك أن هذه الخريطة للقوى المسلحة هي خريطة مبدئية لأبرز القوى المسلحة والفاعلة على الساحة السورية. ونعني بـ « الأبرز» تلك القوى التي تشكل عناوين كبرى تساعد على النظر في تطورات الثورة وأدائها العسكري لاحقا.
والعجيب أن الظاهر للعيان قد يوحي بانفلاش أمني، لاسيما إذا تعلق الأمر بالجماعات الجهادية. والصحيح أننا بقدر ما لاحظنا انفلاشا إعلاميا لا حدود له بقدر ما عانينا من التكتم الشديد الذي يميز الجماعات الجهادية، بصورة تحير كل باحث أو مراقب. فالغالبية الساحقة منها لا تمتلك حتى مواقع لها، اللهم إلا مواقع التواصل الاجتماعي مثل « فيس بوك» أو « تويتر».
لكن أعجب ما يمكن ملاحظته في الثورة السورية هو استحالة حصر القوى المسلحة التي تتكاثر كالفطر. ولا ندري على وجه الدقة سببا لمثل هذه الظاهرة التي تبعث على القلق. إذ أن تكاثر الولادات يوحي من جهة بفوضى عارمة، ومن جهة ثانية بتغول العامل الأمني للنظام، والذي دفع ببعض المجموعات الصغيرة إلى توخي الحذر الشديد من الاحتكاك بجماعات أخرى، ومن جهة ثالثة بتدخلات محلية وربما إقليمية في الثورة السورية، ناجمة عن الرغبة في مقاتلة النظام والتخلص منه. وتبعا لذلك تقوم بالإعلان عن جماعات أو جبهات أو تحقيق اختراقات في القائم منها أملا بدور ما في إسقاط النظام أو انتظارا لدور قادم.
المهم أن هذه الجماعات الكبرى، فيما عدا « الجيش الحر»، تبدو معنية باستجلاب الخبرات من الخارج. وقد بدت معالم التنسيق في هذا السياق واضحة في مشهدين لسيارة يجري التحكم فيها عن بعد، ظهرا في تسجيلين مختلفين أحدهما لـ « كتائب أحرار الشام» والآخر لـ « جبهة النصرة». وقد ظهر هذا النوع من السيارات في شريط سابق بثته جماعة «أنصار الإسلام» في العراق سنة 2011 بعنوان: « سلاح لا ينضب». كما تحدثت هذه القوى، عبر إصداراتها المرئية، عن استعمال واسع النطاق لعبوات ناسفة وأخرى لاصقة. وهذه أساليب الجماعات الجهادية في العراق. ولا ريب أن مثل هذا الأمر قد يبدو مبررا في ظل حرب طاحنة ضد نظام يحصل على السلاح ومصادر القوة من الدول الكبرى والإقليمية، في حين تتعرض الثورة لحصار خانق على السلاح. لكن الأهم أن الساحة السورية قد تلجأ، في ظل الحصار، إلى التصنيع العسكري، فضلا عن تغذية نفسها بنفسها عبر مخازن النظام والشبيحة وعناصر الجيش الحكومي.
يتبع في الحلقة القادمة ...
*****************************
مقالات السلسلة:
(1) الثورة السورية ومسارات التدويل: البيادق والعراب (2) الثورة السورية ومسارات التدويل: لعبة الكبار (3) الثورة السورية ومسارات التدويل: عذراء الجهاد (4) الثورة السورية ومسارات التدويل: تسليح الثورة (5) الثورة السورية ومسارات التدويل: مواجهة شرعية مع النظام
نشر بتاريخ 12-06-2012 | |
|