د. طارق عبد الحليمالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لاشك أن الكثير من الإسلاميين في أنحاء العالم العربيّ صاروا في ربيعٍ زاهر، وسلامٍ وافرٍ، منذ بداية أحداث تونس، وما تلاها في مصر، لم ينعموا به منذ قرابة قرنٍ من الزمان، بعد أن سقطت الخلافة الإسلامية، تحت وطأة التآمر الصليبي الصهيوني، وحلّت محلها تلك الدول القومية التي أزجت حكوماتها العلمانية المتتالية نار النعرة الجاهلية من ناحية، ودقت طبول الحرب على كلّ ما ينتمى للإسلام بصلة، من قريبٍ أو بعيد. وكانت رياح الحرب على الإسلام قد اشتدت من قبل، بفعل تلك القوى الصهيو-صليبية ذاتها، في شكل البعثات والإستشراق الذي حوّل مَسار الهَويّة العربية من إسلامية عربية إلى غربية متعرّبة، ثقافة وعادات، قوانين وتشريعات.
هذه الرياح، التي هدأت ثورتها ضد العَديد من الإسلاميين، لم تكن لتغير من حدتها إلا بفعل ثورات شعبيةٍ لم يكن للإسلاميين عامة أي دخل فيها، بل كما رأينا، قد تواروا إبانها، منتظرين ما ينقشع عنه غُبار المواجهة. يُقدّمون ويُحجِمون، تبعا لما يَتجدد على السّاحة، حسب ما يقدرونه مَصلحة لجَماعاتهم.
وقد كانت هذه الحرب قائمة على الإسلاميين عامة، من قِبَل الحكومات العلمانية، التي كفرت بالتشريع الإلهيّ، ورضيت بالتبعية والولاء الكامل للغرب. ولم يكن يعنيها قبل تلك الثورات، أن تمَحّص إتجَاهات الإسلاميين عامة، لما كانت عليه من قوة وسيطرة على الأرض، بل ضَربتهم جميعاً، من السُنّة الجهاديين، إلى السنة الإحيائيين، إلى بعض السلفيين الواعين، ثم الإخوان المسلمين، الذين كانوا دائماً في جانب المُصالحة والمُشاركة والتعاون مع النظام. لكن، كما ذكرنا، لم يكن للنظام وقتها أي دافع ليميز بين درجات الإسلاميين، إلّا من كان منهم صَريحاً في التعاون مع النظام، بالعِمالة أو الفتاوى، كغَالب مشايخ السَّلفية المعروفين، من الحُويني إلى اللواء محمد حسان. أما ما عدا ذلك، فقد كان النظام يضرب كل من يضعُ شِعاراً إسلامياً على صدره، وهو أمر لم يتمكن الإخوان من تبديله، وقتها، وإلا فقدوا شرْعية بقائهم على الساحة.
تغير إتجاه ريح الحرب اليوم، التي كانت تهُبّ من تلقاءِ الحُكومات على الإسلاميين، إلى زَوابع رأسية داخل الإتّجاه الإسلاميّ ذاته، بين أولئك الذين رأوا من الإسلام جزءاً، فأعطوه جزءاً من منظومة الحياة، وبين من رأوا الإسلام كلاً، فلم يسمحوا أن يشاركه أي نظام آخر في أرضه. بين أولئك الذين لم يثقوا في وعد الله حق الثقة، فراحوا يتعلّلون بالحكمة والسياسة لتغطية على هذا النقص في الثقة بالله، وبين من وثق بالله ثقة تامة عامة شاملة، فلم يَخرُج بالنصوص عن مواضعها، ولم يتأولها عن معناها، فلم يخرج منهم ما يُعضّد الطغيان، ويدعم الفساد، ويوالى الصهيو-صليبية، ويتوافق مع العلمانية. من هولاء، من اختاروا أن يُقايضوا النّظام البائد، وأن يسايروا الغَرب الصهيو-صليبي، وأن يَحرِصوا على بَقاء المَنظومة التَغريبية، بعد التعديلات! وبين من آمن بالتغيير، ورَفَضَ الأسس التي تقوم عليها الدولة الحالية، ولم يقنع إلا بأن يكون التغيير شاملاً، أو أن يكون وهماً ضائعاً، لا إمساك العصا من الوسط.
الحرب الباردة اليوم بين هذين الإتجاهين. وسبحان مغير الأحوال. كان الكثير يحسب أن هذين الفريقين يقفان في خندقٍ واحدٍ، وكنا نُحذّر من هؤلاء على طول الخطّ، نعرف داءهم، ونُبصر أهواءهم، ونرى أن مِحنَهم ليست من شجاعة وإقدام، بل من تغفيل العدو، وعدم قدرته على التمييز، بين الصديق الودود والعدو اللدود. كان الصراع في حقيقته، بين النظام السابق/الحاليّ، المباركي العسكريّ، وبين تلك الإتجاهات الإسلامية المتوافقة، يقوم على من يمكن أن يتعامل مع الغرب، ومن تقبله أمريكا كحليف. وقد أثبت النظام المباركي العسكريّ جدارة طوال عقود عدة، فلم يكن إذن هناك داعٍ للمخاطرة بتغييره أو تبديله بالمنظومة الإخوانية، رغم محاولة الإخوان أن يقدموا أنفسهم كبديل مراراً وتكراراً. ثم، لمّا أملت الشعوب كلمتها، اضطر الحليف الصهيو-صليبيّ أن يقبل بالتغيير، وأن يستبدل قوما غير مبارك ونظامه، على أن يكونوا أمثالهم. وهو بالضبط ما ضمنته الإتجاهات الإسلامية التي رفعها الشعب، على غفلة منه، بدلاً من النظام المباركي العسكريّ.
ثم، جاءت القوة السلفية، بعد أن ظهر أنّ شيوخها لم يكونوا قد نأوا بأنفسهم عن السياسة عقيدة وإيماناً بمضادتها للشرع، في هذه المنظومة الغربية العلمانية، بل لأنهم كانوا بين خائف رعديد، وعميل مستفيد. الخائف منهم يرجف من الأمن بعد أوصدت في وجهه أبواب السياسة، والعميل منهم ذهب يتودّد للأمن ويخدم النظام، جلباً لمنفعة المال والشهرة والفضائيات. وقد حاولوا أن يدرؤا عن أنفسهم المواجهة، فصاروا يروّجون لطاعة الحاكم ليضمنوا السلامة من ناحية، ويقولون بكفر المشرع بغير ما أنزل الله ليبرروا عدم استطاعتهم الإشتراك في العملية السياسية، رغما عنهم لا تأففا أو تعففاً، من ناحية أخرى. ثم، لمّا انفتح الباب شِبراً، إذا بهؤلاء يدفعوه على مصراعيه، فينبذوا عقيدتهم، وينسوا فتاواهم، ويلِجوا في السياسة "يبلبطوا" في مياهها، كالطفل الذي ينزل الماء أول مرة، غير منضبطة حركتهم، ولا واضحة عقيدتهم، ولا متناسقة تصرفاتهم.
المواجهة إذن اليوم هي بين هؤلاء المُتحالفين مع الغرب، المتوافقين مع العلمانية من الإخوان، ومُحدثي السياسة، التائهين عن منهجهم، من مزيفى السلفية، وبين من اتّبَع سُبل السلام، ورَفض الوَجه الغربيّ جملة وتفصيلاً، كما فعل الشيخ حازم أبو اسماعيل، وكما رأينا من العديد من المشايخ، غير الفَضائيين، من المَغمورين، أو أنصاف المَعروفين، ومن كثيرٍ من الشّباب الذين عرفوا الحق بالفطرة والسليقة، ثم عرفوه بالعلم والحجة، فصاروا شوكة في حلق تلك الإتجاهات الأخرى التي رَضيت أن تكون بديلاً عن النظام المباركي العسكريّ، تسير سيره وتخطو خطواته، بل تتعامل مع رموزه وجنرالاته، الطنطاوى وعنان، من خلال أكابرهم، كالمشير محمد بديع، واللواء محمد حسان، يحفظون لهم العهد، ويمهدون لهم سبل البقاء والإفلات من القصاص.
الحرب الباردة اليوم، بين هذين الفريقين، مُدعى السياسة والحكمة والتوسط بين الإسلام والكفر، وبين الثابتين على مناهجهم الواثقين بربهم، المؤمنين بسننه في التغيير.
وهؤلاء، كمن سبقهم، سيكونون علينا وبالا، لا يدّخرون وسعاً في سبيل إسكات الحق. هي المرحلة القادمة، حين يهدأ الشارِع المصريّ، وتعود المياه إلى مجاريها، ويبدأ الأمن الوطنيّ في ممارسة دوره ضد هذا التيار السنيّ بكافة طوائفه، بتحريضِ مُدعى السَّلفية، أحباب اللواء محمد حسان وإخوانه، وبممالأة النواب الإخوان، بالصمت على ما سيجرى.
لكن، والله الذي لا إله إلا هو، لن تكون لنا مصالحة مع هؤلاء إلا أن يَرجعوا ويندموا ويتوبوا. مواجهة هؤلاء في سبيل الله ورسوله والحق الي أُرسِل به، هي سلسلة من مسلسل الصراع على الحق، كما وقف أئمة أهل السنة من قبل في وجه المبتدعين والمخربين والمزيفين لدين الله. صراعٌ لا يهدأ وحرب لا تنقطع، فأهل السنة في رباط حتى يوم الدين.
قَدَرُنا اليوم أن نواجِه هؤلاء المدّعين، نكشف زيفهم، ونُبين خَللهم، ونُعرّى عوارهم، ونَفضَح ولاءاتِهم ونُزيف مفاهيمهم، بالكلمة والمقال، وبالبيان واللسان، والثورة مستمرة، في قلوب الذين آمنوا..
اللهم انصر عبادك حقا وصدقا، واخذل من خذل دينك تخاذلاً وجبناً. آمين آمين