بقلم: د. طارق عبد الحليمالجمعة 03 أغسطس 2012
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
الشعب المصريّ شعبٌ طيب، يقنع بما يرى أسرع مما يفهم، كما وصفنا أحمد شوقي قديماً
ياله من ببغاءٍ عقله في أذنيه
هذه حقيقة، وعذرنا فيها أن كثيراً من الشعوب أصبحت تشاركنا هذه الخاصة، بعد سيطرة الإعلام عالمياً، إلا إننا لا نزال نحوز قصب السبق فيها بلا منازع. ونحن هنا نتحدث إلى من بقي من شعبنا يسدّ أذنيه، ويفتح عقله، وإلى من لا ينتمى إلى جماعة الإخوان المخذولة.
إذا نظرنا إلى ما يحدث اليوم، بعد تولى الوزارة الجديدة، وزارة قنديل، نظرة جادة متأنية، لوجدنا أنّ الإعلان العسكريّ اللادستوريّ مطبوع على "قفا" رئيسها، وكل وزير فيها. وهاكم حقيقة الصورة:
- المجلس العسكريّ لا يزال قائماً يتمتع بكامل سلطاته، ولا يعلم أحد بأي قوة لايزال وجوده مشروعاً، إلا قوة الإرهاب المسلح.
- المجلس الذي ابتدعوه، مجلس الأمن القوميّ، يمسح بصلاحيات رئيس الجمهورية أرض مصر، ويجعل صوته كصوت لواء في الجيش فيما يخص أمر الحرب والسلام.
- حسين الطنطاوى وزيراً للدفاع والإنتاج الحربي وقائدا عاماً للقوات المسلحة، دون أن يكون هناك أي إشارة لوجود قائد أعلى للقوات المسلحة.
- وزارة الداخلية في يد فلوليّ من أتباع العسكر، أحمد جمال الدين، مساعد وزير الداخلية في حكومة الجنزوريّ
- وزارة الخارجية في يد عمرو كامل، إختيار العسكر السابق في حكومة الجنزوريّ
- وزارة المالية في يد ممتاز أبو النور إختيار العسكر السابق في حكومة الجنزوريّ
- الإعلان الدستوريّ لا يزال مسلطاً على رقاب الشعب، وعلى كتاب الدستور العلمانيّ
- المحكمة الدستورية لا تزال في مكانها، تتحدى الرئاسة، والشعب كله.
- النائب العام لا يزال منذ عهد حسنى مبارك، وهو الأقدم فلولياً، والأخسّ أداءً من كل من عداه.
- تيس الأزهر أحمد الطيب، ومفتى الفلول على جمعة لا يزالا في مكانهما، يخربان الدين باسم الأزهر، لعنة الله على الكافرين.
- المحافظون في أماكنهم، أكثر من نصفهم من العسكر، ويظهر أنّ لهم من اسمهم نصيب فهم "محافظون على مناصبهم" ليس إلا!
كلّ المراكز الحساسة في مصر، في يد العسكر أو من والاهم. ودع عنك وزارات البيئة والتنمية والشؤون الإجتماعية، وبقية الوزرات الخدمية، فكلها ليست من وزارات السيادة، بل هي تكرس حقيقة أنّ محمد مرسى ورئيس وزرائه، ليسا إلا خداماً للطنطاوى ومجلس العسكر، يقومان بدورٍ خدميّ، لا سياسيّ ولا أمنيّ، فالسياسة والأمن ليستا تابعتان لهما.
ثم إذا بمحمد مرسى، يكرّم الجنزورى، الذي حلّ مجلس الشعب الإخوانيّ، بل ويمنحه قلادة النيل (يعلم الله ما قيمة تلك الصفيحة المزركشة، لكن يبدو أن أهل الجاهلية يولونها اهتماما كبيراً)، بل ويعينه مستشاراً! عجيبٌ أمرك يا مرسى!
وقد كان من الواضح الجليّ اليوم أنّ أمراً جرى خلف الكواليس يوم انسحب الإخوان، للمرة العاشرة، من مَوضِع المُواجهة مع العسكر، بترك إعتصام التحرير، والركون إلى المعارضة "المستحية"، والتركيز على تمجيد السلطة الرئاسية حالياً، ودعمها، بدلاً من الحديث عما هو مسلوبٌ منها، وهو الأهم والأقوى.
تخلى الإخوان عن المطالب التي دعمها الشعب، والتي وقف الناس خلف محمد مرسى من أجلها، بعد أن انتخب الرجل في منصب "نصف" الرئيس الذي يحتله اليوم. وهذه المطالب كانت، ولا تزال لم تتغير، إسقاط الإعلان اللادستورى العسكريّ الديكتاتوريّ الذي يكرس حكم العسكر في مصر، إعادة الجيش إلى ثكناته والتخلص من تلك العصابة المسماة بالمجلس العسكريّ، حلّ المحكمة الدستورية الشائنة، تطهير القضاء، وإقالة النائب العام المرتشى.
وهذا الذي حدث يمكن أن يُعلل بأحد تفسيرين لا ثالث لهما، إما أن يكون لصفقة تمت بين الإخوان وبين العسكر، يتنازل بموجبها الإخوان عن خيار المواجهة بشأن الإعلان الدستورىّ (يعلم الله أنهم ما كانوا ليختارونه يوما، فهم أجبن من ذلك)، على أن يترك العسكر أمر الرئاسة لهم في القطاع الخدميّ الذي تجيده كوادرهم. وإنا أن يكون غفلة من هؤلاء الإخوان، وعلى رأسهم رئيسهم ومرشدهم، كما يرددون في طبقات منتسبيهم، أنهم يلعبون لعبة القط والفار مع العسكر، وأنهم ينوون سحب السجادة بلطف من تحت أقدام العسكر، وأنهم يطالبون الناس بالصبر عليهم عدة أشهر قليلة، وإعطائهم فرصة أخيرة!
وهذا التفسير الثاني، هو، إن صحّ، كارثة الكوارث، بل إني أزعم أن الخِيانة وعقد الصفقات الخائبة مع العسكر، وهي سمة الإخوان على الدوام، أفضل من هذا المستوى المُخجل من التغفيل والسذاجة والبله. فإيّ سجادة يمكن لهؤلاء المغفلين سحبها من تحت أرجل العسكر، الذين قيدوهم بكل قيدٍ ممكن، وحاصروهم، وتلاعبوا بهم، وحلّوا برلمانهم، ونزعوا صلاحيات رئيسهم؟ لا والله، هي ليست فرصة يطلبونها لعمل أي تغيير في أرض الواقع، فما عرفنا هذا الجيل التعيس من قادة الإخوان قادراً على أي أمر ذى شأن، بل هي فرصة لهم كي يمَكنوا لأنفسهم في مَجالات الإستثمار وزيادة التمكين الماديّ، مثلهم مثل الحزب الوطنيّ، مع فرق في طبيعة مُنتسبي كليهما. هذا هو هدف الجماعة العام الأهم. ولا مانع، إن حدثت بعض الفوائد الموضِعية الخَدمية في الطريق لهذا الهدف.
والتفسير الأول، فيما أرى، هو الأصحّ من ناحية الواقع، إذ إنّ هؤلاء قد عقدوا صفقة غير مكتوبة مع العسكر، يحترم كلّ طرفٍ فيها إختصاص الآخر، العسكر وإختصاص السيادة العامة والولاية على الدولة ومصادرها المالية ووضعها الأمني والعسكريّ في الداخل والخارج، والرئاسة الإخوانية وإختصاصها في قطاع الخدمات وتحسين أوضاع المواطن، بما ترك لهم العسكر من بقايا الثروة المصرية بعيداً عن الجيش.
إن التفريط الإخوانيّ الرئاسيّ ليس تفريطاً في حق محمد مرسى، ولا في حق محمد بديع أو الجماعة، إنما هو تفريطٌ في حق الأمة كلها، حقها في أن تحيا كريمة كبقية أمم الأرض، تحكم نفسها بنفسها، دون إحتلال داخليّ من العسكر، وإحتلال خارجيّ من أمريكا وإسرائيل.
وكفى بالمصريين فخراً واعتزازا بالريس مرسى، أن المشير قد أدى له التحية العسكرية، وأنه أقسم اليمين أمامه! وصدق شوقي فيما قال.
واللهم إني صائم!