د. طارق عبد الحليم
عدد المساهمات : 197 تاريخ التسجيل : 31/08/2011
| موضوع: هنا تَصمتُ السياسة.. وتتحَدثُ القوة! السبت أكتوبر 22, 2011 9:13 am | |
| هنا تَصمتُ السياسة.. وتتحَدثُ القوة!
د. طارق عبد الحليم
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم
قديماً قال أسلافنا "لكلّ مقامٍ مقال"، يعنون بهذا أن ما يصلح في مقامٍ قد لا يصلح في آخر غيره. فكُل مقامٍ له معطياته، وله تقديراته وله عواقبه. وعلى الناظِرِ، أوالفَاعل، أن يقدّر تلك العوامل المتداخلة، ليصل إلى أفضل "مقالٍ"، قولاً أو فعلاً، في مقامٍ معينٍ.
والسياسة، أي الشرعية، التي يُقصد بها جلب مصالح العباد، ودرأ المفاسد والمضار عنهم، في الدّارين، هي بلا شك من أهم ما ينشغلُ به المسلم القادرُ على ذلك، وهي تمثل جانباً هاماً من جوانب الدعوة، وهو الإهتمام بشؤون المسلمين، وإن كان الفارق بينها وبين الدعوة، اسلوباً وطريقاً وهدفاً جدّ كبير، والخلط بينهما جدُّ خطير.
وقد بيّن علماؤنا ما هو المقصود بجلب مصالح العباد، وتحقيق منافعهم، كما بينوا المقصود بدرءِ المفاسد والمضار عنهم. وهذه الحدود والمقاصد هي في غاية الأهمية لمن أراد أن يهتمّ بشؤون المُسلمين، أو، بمعنى آخر، أن ينخرط في سلك السياسة لشرعية. لكننى أحسب أنّ تلك الحدود والمقاصد قد استهين بها، وخلطت فيها الأوراق، وقدّم فيها الأهم على المهم، بل وعلى قليل الأهمية، وتركت مصالحٌ الآخرة لصالح مصالح الدنيا في بعض الشؤون. فالاستشهاد بموضوع المصالح والمفاسد واعتبارهما، ليس حُجة مطلقة، متروكة لتقدير كلّ عابثٍ بالشريعة، مدهٍ للسياسة، وإن تمحك بالشّرعية.
لا أريد أن يكون مقالي هذا درس مطوّل في موضوع المقاصد والمصالح، فقد دونت الكثير في هذا الباب بحمدِ الله تعالى، ولا أشك أنّ قراءنا يعلمون عنه أكثر مما أعلم، كما أننا قد توسعنا في هذا الباب في سلسلة شرح الموافقات، فليرجع اليها من شاء. وإنما القصد هنا إلى إثبات أن هناك أولوياتٌ يجب إعتبارها حين نتحدث عن مصالح الناس، نخصّ منها بالذكر هنا،
1. أنّ ما يَحفظ دين الله في الأرض مُقدمٌ على ما يحفظ أيّ مصلحة أخرى.
2. أنّ ما يَحفظ على العبد توحيده مُقدمٌ على ما يحفظ أيّ مصلحة أخرى.
3. أنّ مصلحة الآخرة مقدمة على مصلحة الدنيا، يقول الشاطبيّ "المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية" الموافقات 2- 37 (العادية يعنى في الأمور الحياتية المعتادة).
4. أنّ حفظ مصلحة الجماعة مُقدمٌ على حفظ مصلحة الفرد، أي أن المصلحة العامة مقدمةٌ على المصلحة الخاصة.
5. أنّ الضرر العاجل يجب الإحتراز منه قبل الآجل، ولو كان الضرر العاجل أقل قليلاً من الآجل، أو إن كان مساويا له، أو رَبا عليه. والقليل متروك تحديده للمجتهد، على ألا يكون كثيراً بحال.
6. أن المصلحة ليست هي المنفعة لزاماً، وأن المفسدة ليست هي المضرة لزاماً، وذلك على المستوى الجزئي، بمعنى أنّ منفعة الفرد قد تتضارب مع مصلحته من الناحية الشرعية، كما في الخمر والزنا، ففيهما نفع وملذة، لكنهما ليستا من مصلحة الفرد على وجه اليقين الشرعيّ.
7. أنّ اجتناب المضار مقدّم على جلب المنافع، بشرط أن يكون تحديد المنافع والمضار خاضعٌ لبندود 1 & 2 & 5. فمثلاً اجتناب ضرر إزاحة الشريعة عن مسرح الحياة بالسكوت على حقيقة إصدار القوانين فوق القرآنية، مقدّمٌ على جلب منفعة الحصول على عدة مقاعد برلمانية، قد تساعد في تحسين وضع المسلمين أو العمل ببعض شرائعهم.
8. أنّ مقصد حفظ النفس ليس مطلوباً بإطلاق، ولا هو مقدمٌ على مقصد حِفظ الدين بإطلاق، وإلا امتنع فرض الجهاد كلية، وهو ما لم يقل به أحدٌ يعتدُ بقوله.
هذه الثوابت التي ذكرنا، هي جزءٌ صغيرٌ مما يجب استحضاره بشكلٍ دائمٍ في عقل، وقلب، السياسيّ الذي يريد أن يتحدث في شؤون المسلمين، يتشرّب بها، ويفكر بطُرُقِها، ولا يقدّم بين يديها رأياً إرتآه، إن كان مَبنيّ على غيرها. والحفاظ على تلك الخُلة، أقول لكم من تجربة أربعين عاماً مضت، صعبٌ أشدّ الصعوبة، يحتاج إلى مرانٍ طويلٍ، سواءً في المُتابعة النظرية، أو الدُربَة العملية، ليستقيم للمرء النظر الدائم بهذا المِنظار.
فإذا نظرنا إلى واقعنا المُعاش حالياً، وجدنا أن أرض الإسلام، في مصر، قد وقعت يقيناً منذ عقودٍ عدة في أيدى من لم يَحكُم بما أنزل الله، بل ومن عادى دين الله، وقتل الدعاة إلى الله، وشرّدهم وعذّبهم، بل وأعان شياطين الإنس ممن يتسمون بإسماء المسلمين على إفساد الحياة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعلمياً، وأعان شياطين الصليبية والصهيونية على رسم خُطط تهدر كرامة الأمة وتقصِدُ إلى مَحو آثارها. ولا تزال هذه القوى، وأتباعها ممن يجلسون اليوم على سدة الحكم في مصر، من العسكر والحكومة، يسيرون على نفس النهج، نهج إرساء العِلمانية، وتكريس الفَساد، ورفضِ حاكمية الشَريعة. وحديثنا هنا موجه لمن يرى هذا الواقع، الذي يراه كلّ ذي عينين، بلا هوى ولا مداهنة.
هذا الواقع، يُشكِلُ ضَرراً أكيداً عَاجلاً على مقصدِ حفظ الدين، وعلى مصلحة الإلتزام بكُلية التوحيد، وهي التحاكم إلى شرع الله كاملاً غير منقوص أو مبتورٍ أو مبدلٍ أو "مُدبلجٍ" أو "مُروَّض". هذه المصلحة العليا، هي مصلحة الجماعة، فهي مقدمةٌ على أيّ مصلحة أخرى، وهي عاجلة، إذ هؤلاء يتربصون لأصدار قوانين تبديل الشريعة عاجلاً كقانون العِبادة المُوحد، وقانون التمييز، بل وإعتماد مادة الدستور الثانية التي تمحو جزئيات الشريعة كُليّة من الحياة، وتعتمد تطبيق كلياتٍ ذهنية، غير قابلة للتطبيق العملي، وانظر إلى قول الشاطبيّ رحمه الله، في معرض حديثه عن ضرورة الحفاظ على الجزئيات (أي تطبيق الأحكام التفصيلية للشريعة) ليمكن الحفاظ على الكليات والمبادئ العامة " ومنها أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات فتوجه القصد إليه" موافقات 2-62. وهو كلام بيّنٌ واضحٌ، يزيف تلك الدعاوى التي يدعيها من ليس له علم بالشريعة، من أن المادة الثانية هي حماية للإسلام والشريعة، أو تلك الأحزاب أو "التيارات الإسلامية" أو الازهر، التي وافقت على مبدأ "تحكيم مبادئ الشريعة". ومن هنا نرى موافقة العسكر والحكومة، بل والصليبيين القبط على تطبيق مبادئ الشريعة، إذ هي، كما يقول الشاطبيّ، مبادئ عقلية عير قابلة للتطبيق في الخارج إلا من خلال ما فصّل الله سبحانه في تفاصيل الشريعة وجزئياتها.
قد فهمنا السكوت على القوة الغَاشمة، التي كانت موجودةً أيام المخلوع، سواء أمن الدولة أو الشرطة، وأنّ الصدام مع النظام وقتها قد يكون له من العواقب ما يتعدى الضرر القليل الذي اشرنا اليه في بند 5 آنفاً. ولكن، يا سادة، لقد راح المخلوع، وتهيأ للمسلمين بابٌ يمكن أن يفرضوا من خلاله دينهم وشريعتهم، فالدستور لا يزال لم يُدوّن، والمبادئ المُتبعة الآن ليس لها قوة إلزام البتة. وتعين بذلك على المسلمين أن "يفرِضوا" دينهم على من يريدون تبديله، وعلى من يرون أنهم ساعين بغاية الجدّ والسرعة في تخريبه. ولو انتظروا أن يتم هذا دون أيّ ضرر البته، لانتظروا إلى قيام الساعة. ولكنّ الأمر أنّ الآن هو أفضل الأوقات التي يُمكن أن يقلّصَ فيها ّ الضرر، بأن يُقلّصَ فيها عدد الشهداء، أو المعتقلين، مع قوة الدفع الشعبيّ والحماس الإسلاميّ في الشارع المصريّ. لكن أنْ يُقدّم نفع الحصول على عدة مقاعد يمكن من خلالها، فيما يتوهمون، أن تطبق تفاصيل الشريعة، لهو خَللٌ في القدرة على الإستنباط والفهم عن الله سبحانه، بل والفهم عن التاريخ، قديمه وحديثه.
ناهيك عمن قدّم مصلحة عدم الإختلاط بين الرجال والنساء، في مَواضع التظاهر، والتي هي في مرتبة الحاجيات من مقاصد حفظ النسل أو العِرض، بلا نزاع، على مصلحة إقامة توحيد الله وتطبيق شَرعِه، والتي هي من الضروريات في مقصد حفظ الدين، وشتانٌ بين المَقامين لمن عقل.
الأمر اليوم إذن يستدعى أن يَصمُت أدعياءُ السياسة التي لا تنبنى على شَرعية، وأن يقوم أصحابُ الحق، ليستلبوه بالقوة، بدلاً من هذا التخنّث والخُنوع في الأداء، والجهل بالشريعة عند الإدعاء.
إنّ التمَحكَ بالمجالس النيابيّة والمقاعِد البرلمانية غير الشّرعية، لإصلاح الأمة، إنما يصلُحُ لمن ترك قضية التحاكم إلى شرع الله تفصيلاً، كما بيّنه أئمة السنة والجماعة، واكتفى بصورته إجمالاً، وذهب يضرب في بوادي التصوّف حيناً والعِلمانية حيناً، ويتعلق بقولٍ في المصالح هنا، ورأيٍّ في المفاسد هناك، كما فعلت الإخوان، أو من يتحدث عن قضايا عامة لا علاقة لها بالشريعة، كعدم تخوين العسكر، أو ضروروة الثقة بهم، كما يتشدقُ به بعض المُنتمين للسّلفية المُروّضَة، هو أمرٌ بعيد النجعة عن مقاصد الشرع في إقامة الحقّ والعدل، وهو بيّنٌ في التودّد والتقرّب للحُكام، بدلاً من اهتبال الفرصة اللائحة للعودة إلى الإسلام الحق، كما أراد الله سبحانه، وكما يَحلمُ به ويَسعى اليه كلّ من استمع للقرآن، استماع قلب ٍ محبٍ وإنصات، لا استماع أذنٍ مُطرقةٍ وقلب مَوات.
"وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" النحل 118
* 22 أكتوبر 2011
| |
|